فصل: الفوائد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة ص: الآيات 30- 40]:

{وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)}.

.اللغة:

{الصَّافِناتُ} جمع صافنة وهي القائمة على ثلاث وإقامة الأخرى على طرف الحافر من رجل أو يد وفي المختار: الصافن من الخيل القائم على ثلاث قوائم وقد أقام الرابعة على طرف الحافر وقد صفن الفرس من باب جلس والصافن من الناس الذي يصف قدميه وجمعه صفون وعبارة الزمخشري الصفون لا يكاد يكون في الهجن وإنما هو في العراب الخلّص وقيل وصفها بالصفون والجودة ليجمع ما بين الوصفين المحمودين واقفة وجارية يعني إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها وإذا جرت كانت سراعا خفافا في جريها.
{الْجِيادُ} جمع جواد وهو السابق وقيل جمع جيد، وفي أدب الكاتب لابن قتيبة ويقال للفرس عتيق وجواد وكريم ويقال للبرذون والبغل والحمار فاره والسوابق من الخيل أولها السابق ثم المصلي وذلك لأن رأسه عند صلا السابق ثم الثالث والرابع كذلك إلى التاسع والعاشر السّكيت ويقال أيضا السّكّيت مشددا فما جاء بعد ذلك لم يعتد به والفسكل الذي يجيء في الحلبة آخر الخيل هذا ما أورده ابن قتيبة وقد سموا الثالث المتلى لأنه يتلى الثاني وسموا الرابع التالي وسموا الخامس المرتاح وسموا السادس العاطف وسموا السابع المؤمل وسموا الثامن الحظي وسموا التاسع اللطيم.
{مَسْحًا} المسح: القطع وفي المختار ومسحه بالسيف قطعه.
{بِالسُّوقِ} جمع ساق ومن غريب أمر الساق أن له العديد من المعاني فأولها وهو المراد هنا أنه ما بين الكعب والركبة مؤنث وجمعه سوق وسيقان وأسوق وساق الشجرة جذعها، ومن معانيه ساق الحمام والغراب نباتان وساق حر ذكر القماري ويقال كشف الأمر عن ساقه أي اشتدّ وعظم وقامت الحرب على ساق أي اشتدت وولدت المرأة ثلاثة بنين على ساق واحدة أي بعضهم في إثر بعض لا جارية بينهم والحديث في هذه المادة يطول فنحيل القارئ إلى المعاجم.
{رُخاءً} لينة طيبة لا تزعزع.
{أَصابَ} أراد وقصد وفي الكشاف حكى الأصمعي عن العرب: أصاب الصواب، فأخطأ الجواب. وعن رؤبة أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة فخرج إليهما فقال: أين تصيبان؟ فقالا: هذه طلبتنا ورجعا ويقال أصاب اللّه بك خيرا وفي الأساس: وأصاب اللّه تعالى بك خيرا: أراده رخاء حيث أصاب.
{الْأَصْفادِ} الأغلال وفي القاموس صفده يصفده من باب ضرب يصفده: شده وأوثقه كأصفده وصفّده والصفد محركة العطاء والوثاق وبلا لام بلد بالشام وككتاب ما يوثق به الأسير من قد أو قيد والأصفاد: القيود فلا معنى لقول بعض المفسرين ردا على الجلال الذي فسر الأصفاد بالقيود إذ قال ذلك المفسر: من المعلوم أن القيد يكون في الرجل فلا يلتئم هذا التفسير مع قوله يجمع أيديهم إلخ فلو فسر الأصفاد بالأغلال لكان أوضح. وفي المختار: صفده شده وأوثقه من باب ضرب وكذا صفده تصفيدا والصفد بفتحتين والصفاد بالكسر ما يوثق به الأسير من قد وقيد وغل والأصفاد القيود واحدها صفد.

.الإعراب:

{وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبسط قصة سليمان بعد أن بسط قصة داود ووهبنا فعل ماض وفاعل ولداود متعلقان بوهبنا وسليمان مفعول ونعم فعل ماض جامد لإنشاء المدح والعبد فاعله والمخصوص بالمدح محذوف لتقدم ذكره أي هو وإنه أواب إن واسمها وخبرها والجملة تعليل للمدح علل كونه ممدوحا بكونه أوابا رجاعا إليه بالتوبة أو مسبحا مؤوبا للتسبيح مرجعا له لأن كل مؤوب أواب.
{إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ} إذ: يجوز أن يكون ظرفا لأواب وأن يكون العامل فيه نعم وأن يكون منصوبا بمقدر أي اذكر يا محمد وقت وقوع هذه القصة وجملة عرض في محل جر بإضافة الظرف إليها وعليه متعلقان بعرض وبالعشي متعلقان بمحذوف حال أي كائنا في ذلك الوقت والصافنات نائب فاعل والجياد نعت والأولى أن يكون المفعول محذوفا أي الخيل والصافنات الجياد صفتين للخيل والظاهر أن العرض قد استهواه، وخيل إليه أنه يستطيع الاعتماد على هذه الخيل المطهمة في جهاده العدو إرضاء لربه فشغله حينا من الوقت عن ذكر اللّه تعالى وكان به لهجا.
{فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ} الفاء عاطفة وقال فعل ماض وفاعله مستتر وإن واسمها وجملة أحببت خبرها وأحببت ليست جارية على معناها الأصيل وإنما هي متضمنة معنى فعل يتعدى بعن بمعنى آثرت وحب الخير مفعول به لذلك الفعل أو مفعول مطلق وقيل مفعول من أجله وعبارة السمين: حب الخير فيه أوجه أحدها أنه مفعول أحببت لأنه بمعنى آثرت وعن على هذا بمعنى على والثاني أن حب مصدر على حذف الزوائد والناصب له أحببت والثالث أنه مصدر تشتهي أي حبا مثل حب الخير والرابع أنه ضمن معنى أنبت فلذلك تعدى بعن والخامس أن أحببت بمعنى لزمت والسادس أن أحببت من أحب البعير إذا سقط وبرك من الاعياء والمعنى قعدت عن ذكر ربي فيكون حب الخير على هذا مفعولا من أجله وعن ذكر ربي متعلقان بأحببت والإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول أي عن أن أذكر ربي أو إلى الفاعل أي عن أن يذكرني ربي وسيأتي المزيد من بحث هذه الآية في باب البلاغة، وحتى حرف غاية وجر وتوارت فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هي أي الشمس وقيل الخيل وبالحجاب متعلقان بتوارت.
{رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ} ردوها فعل أمر وفاعل ومفعول به والجملة مقول قول محذوف أي قال ردوها وعلي متعلقان بردوها فطفق عطف على محذوف أي فردوها وطفق فعل ماض من أفعال الشروع وهي تعمل عمل كان واسمها ضمير مستتر تقديره هو ومسحا مفعول مطلق لفعل محذوف أي يمسح مسحا والجملة خبر طفق وبالسوق متعلقان بمسحا والأعناق عطف على بالسوق وسيأتي قول للامام فخر الدين الرازي طريف جدا خالف فيه جمهرة المفسرين وهو جدير بالاعتبار فانظره في باب الفوائد.
{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنابَ} الواو استئنافية واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وفتنا فعل وفاعل وسليمان مفعول به وألقينا عطف على فتنا وعلى كرسيه جار ومجرور متعلقان بألقينا وجسدا مفعول به ثم أناب عطف أيضا ولكنه بعد تراخ وسيأتي القول في فتنة سليمان ومناقشتها.
{قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} رب منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة وهب فعل أمر للدعاء ولي متعلقان به وملكا مفعول به وجملة لا ينبغي صفة لملكا ولأحد متعلقان بينبغي ومن بعدي صفة لأحد.
{إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} الجملة تعليلية للدعاء بالمغفرة والهبة وإن واسمها وأنت ضمير فصل أو مبتدأ والوهاب خبر إن أو خبر أنت والجملة خبر إنك.
{فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ} الفاء عاطفة على محذوف يفهم من مضمون الكلام أي فاستجبنا له دعاءه وأعدنا له هذا الملك السليب وسخرنا فعل وفاعل وله متعلقان بسخرنا والريح مفعول به وجملة تجري بأمره في محل نصب على الحال من الريح ورخاء حال من الضمير في تجري وحيث ظرف متعلق بتجري أو بسخرنا وجملة أصاب في محل جر بإضافة الظرف إليها.
{وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} الواو حرف عطف والشياطين عطف على الريح وكل بناء بدل من الشياطين وغواص عطف على بناء.
{وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ} وآخرين عطف على كل بناء أدخل معه في حكم البدل وهو بدل الكل من الكل ومقرنين نعت لآخرين أي قرن بعضهم مع بعض في الأصفاد.
{هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ} الجملة مقول قول محذوف أي وقلنا له، وهذا مبتدأ وعطاؤنا خبر فامنن الفاء الفصيحة وامنن فعل أمر أي أعط منه من شئت وأو حرف عطف للتخيير وأمسك فعل أمر معطوف على امنن وبغير حساب متعلقان بعطاؤنا أي أعطيناك بغير حساب ولا تقدير وفيه إلماع إلى كثرة العطاء أو متعلقان بامنن أو أمسك ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف نصبا على الحال مما تقدم أي حال كونك غير محاسب عليه لأنه يتعالى عن الحساب والضبط.
{وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ} تقدم إعراب مثله كثيرا.

.الفوائد:

القول في هذه الآيات وفي فتنة سليمان بالخيل والجياد لا يتسع له صدر هذا الكتاب وهو خارج عن نطاقه ولكننا سنحاول الالماع إلى هذه الفتنة وما قيل فيها وما نسج حولها من أكاذيب وأضاليل لفّقتها اليهودية الضالعة مع الأهواء، وقبل أن نشرع في ذلك ننقل فصلا للإمام فخر الدين الرازي أطاح بكل الأضاليل التي لابست هذا القصص الموشى بنسج الخيال قال: التفسير الحق المطابق لألفاظ القرآن أن نقول: إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم كما أنه كذلك في ديننا ثم أن سليمان عليه السلام احتاج إلى غزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر باجرائها وذكر أنني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس وإنما أحبها لأمر اللّه تعالى وتقوية دينه وهو المراد بقوله: عن ذكر ربي ثم أنه عليه الصلاة والسلام أمر باعدائها وإجرائها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره ثم أمر برد الخيل إليه وهو قوله: ردوها علي فلما عادت طفق يمسح سوقها وأعناقها والغرض من ذلك المسح أمور: الأول تشريفها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو، الثاني أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والمملكة يبلغ إلى أنه يباشر الأمور بنفسه، الثالث أنه كان أعلم الناس بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها من غيره فكان يمسحها ويمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض، فهذا التفسير الذي ذكرنا ينطبق على لفظ القرآن ولا يلزمنا شيء من تلك المنكرات والمحظورات والعجب من الناس كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة فإن قيل: فالجمهور قد فسروا الآية بتلك الوجوه فما قولك فيه؟ فنقول لنا هاهنا مقامان: المقام الأول أن ندعي أن لفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي ذكروها وقد ظهر والحمد للّه أن الأمر كما ذكرنا ظهورا لا يرتاب عاقل فيه والمقام الثاني أن يقال:
هب أن لفظ الآية لا يدل عليه إلا أنه كلام ذكره الناس وأن الدلائل الكثيرة قد قامت على عصمة الأنبياء ولم يدل دليل على صحة هذه الحكايات.
أسطورة خاتم سليمان:
هذا وما يروى عن فتنة سليمان من حديث الخاتم والشياطين وعبادة الوثن في بيت سليمان فقد أبي العلماء المحققون قبوله وقالوا أنه من نسج خيال اليهود، فقد روت الأساطير أن سليمان بلغه خبر صيدون وهذه مدينة في بعض الجزر وأن بها ملكا عظيم الشأن معتصما بالبحر لا يقدر عليه أحد فخرج اليه تحمله الريح حتى أناخ بها بجنوده من الجن والإنس فقتل ملكها وأصاب بنتا له من أحسن الناس وجها فاصطفاها لنفسه وأسلمت وأحبها وكانت لا يرقا دمعها حزنا على أبيها فأمر الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها فكستها مثل كسوته وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن له كعادتهن إبان حياته فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر الصورة وعاقب المرأة ثم خرج وحده إلى فلاة وفرش له الرماد فجلس عليه تائبا متضرعا وكانت له أم ولد يقال لها أمينة إذا دخل عليها للطهارة وضع خاتمه عندها وكان ملكه في خاتمه فوضعه عندها يوما وأتاها الشيطان المارد الذي دل سليمان على الماس حين أمر ببناء بيت المقدس واسمه صخر، على صورة سليمان فقال يا أمينة خاتمي فتختم به وجلس على كرسي سليمان وعكفت عليه الطير والجن والإنس ولما أتى سليمان لطلب الخاتم أنكرته وطردته فعرف أن الخطيئة أدركته فكان يدور على البيوت يتكفف فإذا قال أنا سليمان حثوا عليه التراب وسبوه ثم عمد إلى السماكين ينقل لهم السمك فيعطونه كل يوم سمكتين فمكث على ذلك أربعين صباحا عدد ما عبد الوثن في بيته فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم الشيطان وسأل آصف نساء سليمان فقلن: ما يدع امرأة منّا في دمها ولا يغتسل من جنابة، ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة ووقعت السمكة في يد سليمان فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم فتختم به ووقع ساجدا ورجع اليه ملكه وأمر الشياطين أن يأتوه بصخر فأتوه به فأدخله في جوف صخرة وسد عليه بأخرى ثم أوثقها بالحديد والرصاص ثم أمر به فقذف في البحر إلى آخر تلك الأسطورة التي تشبه ما يصوره خيال شهر زاد في ألف ليلة وليلة من حكايات الجن وأساطير القماقم وغيرها وما أجمل ما يقوله القاضي عياض في هذا الصدد: لا يصح ما نقله الأخباريون من تشبه الشيطان به وتسلطه على ملكه وتصرفه في أمته بالجور في حكمه.
والذي عليه علماء الإسلام أن سبب فتنته ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: قال سليمان لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كلهن تأتي بفارس مجاهد في سبيل اللّه تعالى فقال له صاحبه: قل إن شاء اللّه فلم يقل إن شاء اللّه فطاف عليهن جميعا فلم تحمل منهن امرأة إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل وايم اللّه الذي نفسي في يده لو قال: إن شاء اللّه لجاهدوا في سبيل اللّه فرسانا قال الزمخشري وهذا ونحوه مما لا بأس به بقي قوله: {وألقينا على كرسيه جسدا} ما هو؟ ما حقيقته؟ إن الذين يروون الأسطورة على علاتها كالجلال وغيره من أكابر العلماء يقولون: إنه الجني صخر والذين ينكرون الأسطورة يحارون في الجسد الذي ألقي على كرسيه فتارة يقولون: أنه الشق الذي ولدته المرأة قالوا: والشق هو الجسد الذي القي على كرسيه حين عرض عليه وهو عقوبته ومحنته لأنه لم يستثن لما استغرقه من الحرص وغلب عليه من التمني وقيل: نسي أن يستثني كما صح في الحديث لينفذ أمر اللّه ومراده فيه، وقيل: إن المراد بالجسد الذي ألقي على كرسيه أنه ولد له ولد فاجتمعت الشياطين وقال بعضهم لبعض: إن عاش له ولد لم ننفك من البلاء فسبيلنا أن نقتل ولده أو نخبله فعلم بذلك سليمان فأمر السحاب فحمله فكان يربيه في السحاب خوفا من الشياطين فبينما هو مشتغل في بعض مهماته إذ ألقي الولد ميتا على كرسيه فعاتبه اللّه على خوفه من الشياطين حيث لم يتوكل عليه في ذلك فتنبه لخطئه فاستغفر ربه فذلك قوله عز وجل: {وألقينا على كرسيه جسدا} إلخ.
على أن المسألة ليست مما يمكن البت فيه أو الترجيح بالرأي وإنما هي مسائل تاريخية تضاربت فيها الأقوال واللّه أعلم.
المراد بالخير:
واختلف العلماء والمفسرون أيضا في المراد بالخير بقوله: {إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي} الآية فقال قوم هو المال مستدلين بقوله تعالى: {إن ترك خيرا} أي مالا وقوله {إنه لحب الخير لشديد} وقيل هو مجاز والمراد به الخيل التي شغلته وأنسته ذكر ربه أو سمى الخيل خيرا كأنها نفس الخير لتعلق الخبر بها قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» وقال أيضا في زيد الخيل حين وفد عليه وأسلم: «ما وصف لي رجل فرأيته إلا كان دون ما بلغني إلا زيد الخيل وسماه زيد الخير» وفي القرطبي: يعني بالخير الخيل والعرب تسميها كذلك ويعاقب بين الراء واللام فتقول انهملت العين وانهمرت وختلت وخترت، قال الفراء: الخير في كلام العرب والخيل واحد.
ومن الكلام البليغ الذي رمق الشعراء سماءه قوله تعالى: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب} فقد كان سليمان يقرن مردة الشياطين بعضهم في بعض في القيود والسلاسل للتأديب والكف عن الفساد وعن السدي كان يجمع أيديهم إلى أعناقهم في الجوامع، والصفد القيد وسمي به العطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه ومنه قول علي بن أبي طالب: من برّك فقد أسرك ومن جفاك فقد أطلقك وقال أبو تمام الطائي من قصيدة يمدح بها أبا سعيد الثغري:
همي معلقة عليك رقابها ** مغلولة إن العطاء إسار

وتبعه أبو الطيب فقال من قصيدة يمدح بها سيف الدولة:
وقيدت نفسي في ذراك محبة ** ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا